موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد.
فإن من أعظم الشرور التي انتشرت في الأمة، وتفاقم أمرها، والتبست على كثير من الناس: البدع المضلة، ففيها الاستدراك على الله، وادعاء عدم كمال الدين، فكان في كل خطبة يحذر منها فيقـول: (( وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)).
وقال )) : سيكون في آخر أمتي ناس يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم )). [ مسلم ( 1/12 )]
وقال عن المدينة: (( من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين )). [ مسلم: رقم 1366]
$ فهجر أهل البدع ومنابذتهم من أعظم أصول الدين التي تحفظ على المسلم دينه وتقيه شر مهالك البدع والضلالات. كيف لا، وقد أوضح الله U هذا الأصل العظيم حيث قال: ﴿ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعـرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره، وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ﴾.
قال ابن عون: كان محمد بن سيرين - رحمه الله تعالى – يرى أن أسرع الناس ردة أهل الأهواء، وكان يرى أن هذه الآية أُنزلت فيهم: ﴿ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم ﴾. [الإبانة لابن بطة ( 2/431 )]
والآثـار عن السلف في التحذير من البدع وأهلها كثيرة جداً، فسيرتهم مليئة بهجر أهل البدع، وإخزائهم، وإذلالهم.
فهذا ابن عمر t حين سئل عن القدرية قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني. [رواه مسلم ( 8 )]
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: لا تجالس أهل الأهواء فإن مجالستهم ممرضة للقلوب. [الإبانة ( 2/438 )]
وقال الإمام الأوزاعي: اتقوا الله معشر المسلمين، واقبلوا نصح الناصحين، وعظة الواعظين، واعلموا أن هذا العلم دين فانظروا ما تصنعون وعمن تأخذون وبمن تقتدون ومن على دينكم تأمنون؛ فإن أهل البدع كلهم مبطلون أفّاكون آثمون لا يرعوون ولا ينظرون ولا يتقون. إلى أن قال: فكونوا لهم حذرين متهمين رافضين مجانبين، فإن علماءكم الأولين ومن صلح من المتأخرين كذلك كانوا يفعلون ويأمرون. [تاريخ دمشق ( 6/362 )]
وقال الفضيل بن عياض (ت: 187) : إن لله ملائكة يطلبون حلق الذكر، فانظر مع من يكون مجلسك، لا يكون مع صاحب بدعة؛ فإن الله تعالى لا ينظر إليهم، وعلامة النفاق أن يقوم الرجل ويقعد مع صاحب بدعة، وأدركت خيار الناس كلهم أصحاب سنة وهم ينهون عن أصحاب البدعة. [حلية الأولياء ( 8/104 )]
قلت: والفضيل بن عياض - رحمه الله - له كلام كثير نفيس في ذم أهل البدع والتحذير منهم، فمن ذلك:
قوله : لا تجلس مع صاحب بدعة، فإني أخاف أن تنـزل عليك اللعنة.
وقال: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله وأخرج نور الإسلام من قلبه.
وقال: آكل مع يهودي ونصراني ولا آكل مع مبتدع وأحب أن يكون بيني وبين صاحب بدعة حصن من حديد. [الإبانة لابن بطة (2/460 )]
قال رجل لأيوب السختياني: يا أبا بكر أسألك عن كلمة. قال: فرأيته يشير بيده ويقول: ولا نصف كلمة ولا نصف كلمة. [الإبانة ( 2/472)]
وعن ابن سيرين أنّه كان إذا سمع كلمة من صاحب بدعة وضع إصبعيه في أذنيه ثم قال: لا يحل لي أن أكلمه حتى يقوم من مجلسه. [الإبانة ( 2/473 )]
وقال رجلاً لابن سيرين: إن فلاناً يريد أن يأتيك ولا يتكلم بشيء.
قال: قل لفلان: لا، ما يأتي، فإن قلب ابن آدم ضعيف، وإني أخاف أن أسمع من كلمة فلا يرجع قلبي إلى ما كان. [الإبانة (2/446)]
وقال معمر: كان ابن طاووس جالساً فجاء رجل من المعتزلة فجعل يتكلم، قال فأدخل ابن طاووس إصبعيه في أذنيه، وقال لابنه: أي بني أدخل أصبعيك في أذنيك واشدد، ولا تسمع من كلامه شيئاً. [الإبانة ( 2/446)]
وقال يحيى بن أبي كثير: إذا لقيت صاحب بدعة في طريق فخذ في طريق آخر. [الإبانة ( 2/475 )]
وقال ابن المبارك: صاحب البدعة على وجهه الظلمة وإن ادّهن كل يوم ثلاثين مرة. [اللالكائي: 284]
قال : إن الله احتجز التوبة عن صاحب كل بدعة.[السلسلة الصحيحة: 1620]
وقال الإمام أحمد: قبور أهل السنة من أهل الكبائر روضة، وقبور أهل البدعة من الزهاد حفرة؛ فساق أهل السنة أولياء، وزهاد أهل البدعة أعداء الله. [طبقات الحنابلة (1/184)]
وقال أيضاً: أهل البدع ما ينبغي لأحد أن يجالسهم ولا يخالطهم ولا يأنس بهم. [الإبانة ( 2/475)]
وجاء الإمامَ أحمد رجلٌ، فقال: أنا من أهل الموصل، والغالب على أهل بلدنا الجهمية، وفيهم أهل سنة نفر يسير يحبونك، وقد وقعت مسألة الكرابيسي. قال الإمام أحمد: "إياك إياك وهذا الكرابيسي، لا تكلمه، ولا تكلم من يكلمه" أربع مرات، أو خمس مرات. [تاريخ بغداد (8/65)]
وقال مفضل بن مهلهل: لو كان صاحب البدعة إذا جلست إليه يحدثك ببدعته حذرته وفررت منه، ولكنه يحدثك بأحاديث السنّة في بدو مجلسه ثم يدخل عليـك بدعته فلعلها تلزم قلبك فمتى تخرج من قلبك.[الإبانة (2/444 )]
قال الإمام إبن بطة العكبري: ومن السنة مجانبة كل من اعتقد شيئاً مما ذكرناه [أي: من البدع]، وهجرانه، والمقت له، وهجران من والاه، ونصره، وذب عنه، وصاحبه، وإن كان الفاعل لذلك يظهر السنّة. [ والإبانة ( ص 282 )]
رحم الله الإمام ابن بطة، فعن علم تكلم، وبحكمة نطق، فبعد أن بين أن هجر أهل الأهواء والبدع ومقتهم من أصول السنة، نبّه على أن من ناصر أهل البدع ووالاهم وذب عنهم، وصاحبهم، وإن كان يظهر السلفيّة، فإنه يلحق بهم، ويأخذ حكمهم، ويعامل معاملتهم في الهجر وغيره.
وقـد بين ذلك ووضحه عدد من الأئمة، ومستندهم في ذلك ما جاء في حديث عائشةـ رضي الله عنها –قالت: قال رسول )) : الأرواح جنود مجنّدة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف)). [البخاري ( 3336 )]
قال ابن مسعود t :إنما يماشي الرجل، ويصاحب من يحبه ومن هو مثله. [الإبانة ( 2/476 )]
وقال الأوزاعي : من ستر علينا بدعته لم تَخْفَ علينا أُلفته " [الإبانة ( 2/479]
وعن عقبة بن علقمة قال: " كنت عند أرطاة بن المنذر فقال بعض أهل المجلس: ما تقولون في الرجل يجالس أهل السنّة ويخالطهم، فإذا ذكر أهل البدع قال: دعونا من ذكرهم لا تذكروهم، قال أرطأة: هو منهم لا يلبّس عليكم أمره، قال: فأنكرت ذلك من قول أرطاة قال: فقدمت على الأوزاعي، وكان كشّافاً لهذه الأشياء إذا بلغته، فقال: صدق أرطأة والقول ما قال؛ هذا يَنهى عن ذكرهم، ومتى يحذروا إذا لم يُشد بذكرهم " [تاريخ دمشق ( 8/15 )]
وقال محمد بن عبيد الغلابي:" يتكاتم أهل الأهواء كل شيء إلا التآلف والصحبة " [الإبانة ( 2/479]
وقال أحمد: إذا سلّم الرجل على المبتدع فهو يحبه. [طبقات الحنابلة ( 1/196)]
قال الأعمش: كانوا لا يسألون عن الرجل بعد ثلاث: ممشاه ومدخله وألفه من الناس. [الإبانة (2/476)]
وقدم موسى بن عقبة الصوري بغداد، فذُكِر للإمام أحمد بن حنبل فقال: أنظروا على من ينزل وإلى من يأوي. [الإبانة (2/479)]
وقال أبو داود السجستاني: قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: أرى رجلاً من أهـل البيت مع رجل من أهل البدع، أترك كلامه؟ قال: لا، أو تُعْلِمه أن الذي رأيته معه صاحب بدعة، فإن ترك كلامه وإلا فألحقه به، قال ابن مسعود: المرء بخدنه".([1]) [طبقات الحنابلة ( 1/160 )]
قال الفضيل بن عياض: من عظّم صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام، ومن تبسم في وجه مبتدع فقد استخف بما أنزل الله U على محمد r ، ومن زوّج كريمته من مبتدع فقد قطـع رحمهـا، ومن تبع جنازة مبتدع لم يزل في سخط الله حتى يرجع. [شرح السنّة للبربهاري ( ص : 139 )]
قال الشاطبي: " فإن توقير صاحب البدعة مظنّة لمفسدتين تعودان على الإسلام بالهدم:
إحداهما: التفات الجهال والعامة إلى ذلك التوقير، فيعتقدون في المبتدع أنّه أفضل الناس، وأن ما هو عليه خير مما عليه غيره، فيؤدي ذلك إلى اتباعه على بدعته دون اتباع أهل السنّة على سنّتهم.
والثانية: أنّه إذا وُقِّرَ من أجل بدعته صار ذلك كالحادي المحرض له على إنشاء الابتداع في كل شيء. وعلى كل حال فتحيا البدع وتموت السنن، وهو هدم الإسلام بعينه. [الاعتصام للشاطبي ( 1/114 )]
وقال الفضيل بن عياض: " الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكـر منها اختلف، ولا يمكن أن يكون صاحب سنة يمالئ صاحب بدعة إلا من النفاق".
قال ابن بطة – معلقاً على قول الفضيل - : "صدق الفضيل - رحمه الله – فإنا نرى ذلك عياناً". [الإبانة لابن بطة ( 2/456)]
قال ابن عون: الذي يجالس أهل البدع أشد علينا من أهل البدع. [الإبانة (2/273)]
وقال عتبة الغلام : من لم يكن معنا فهو علينا. [الإبانة (2/437)]
ولما قدم سفيان الثوري البصرةَ، جعل ينظر إلى أمر الربيع – يعني ابن صبيح – وقدره عند الناس، سأل أي شيء مذهبه؟
قالوا: ما مذهبه إلا السنة.
قال: من بطانته؟.
قالوا: أهل القدر.
قال: هو قدري. [الإبانة ( 2/453)]
وقال الإمام البربهاري: وإذا رأيت الرجل جالساً مع رجل من أهل الأهواء فحذّره وعرّفه، فإن جلس معه بعد ما علم فاتقه؛ فإنه صاحب هوى. [شرح السنة (ص: 121)]
وقال ابن تيميّة فيمن يوالي الاتحادية وهي قاعدة عامة في جميع أهل البدع:
" ويجب عقوبـة كل من انتسـب إليهم، أو ذب عنهم، أو أثنى عليهم أو عظم كتبهم، أو عرف بمساندتهم ومعاونتهـم، أو كره الكلام فيهم، أو أخذ يعتذر لهم بأن هذا الكلام لا يدرى ما هـو، أو من قال إنه صنف هذا الكتاب، وأمثال هذه المعاذير، التي لا يقولها إلا جاهل، أو منافق؛ بل تجب عقوبة كل من عرف حالهم، ولم يعاون على القيام عليهم، فإن القيام على هؤلاء من أعظم الواجبات؛ لأنهم أفسدوا العقول والأديان، على خلق من المشايخ والعلماء، والملوك والأمراء، وهم يسعون في الأرض فساداً، ويصدون عن سبيل الله. " [مجموع الفتاوى ( 2/132 )]